«حورية من البحر» لإبسن: ثمن الحرية / ابراهيم العريس
قد لا تكون مسرحية هنريك إبسن «سيدة من البحر»، واحدة من أشهر مسرحياته، لكن أهميتها تكمن في ذلك الحيز الوسط الذي تحتله بين مسرحه الشاعري ومسرحه الواقعي، من دون أن يكون لهذا علاقة بالبعد الكرونولوجي. فهذه المسرحية تلتحق بمسرحيتين أخريين
للكاتب النرويجي تُعطى المكانة الأولى فيهما لشخصية نسائية حتى وإن كانت امرأة. بيد أن هذا العمل يبدو أقل قوة وتمرداً وإثارة لقضية المرأة ومكانتها في المجتمع مما تفعل هيدا غايلر في المسرحية التي تحمل اسمها في عنوانها، أو نورا في «بيت الدمية» التي تحمل هذه المرة في العنوان، التوصيف الذي ترفض نورا أن تُعطاه من قبل المجتمع. فأليدا، امرأة البحر أو حوريته، امرأة حالمة لا قضية نسوية تحركها ولا قهر اجتماعي. يحركها فقط ماض حدث لها فيه أن التقت بحاراً غريباً وقعت في غرامه ثم ارتحل واعداً بأنه سوف يعود يوماً لا محالة. لكن غيبته طالت وها هي أليدا لا تزال تنتظره موقنة من عودته. ومع هذا فإن هذه المرأة التي تعيش البحر بكل جوارحها، ترتدي من الملابس ما يجعله حاضراً في شكل يومي في حياتها، ترنو إليه ساعات وساعات هي التي تسكن دارة فسيحة تقع على مشهد بحري رائع يمثله فيورد وسفح جبل وخضرة لا تنتهي تطل عليها حديقة البيت التي يدور فيها المشهد الأول من بين تلك الخمسة التي تتألف المسرحية منها.
> صحيح أن أليدا ليست امرأة عزباء، ولا هي تقطن في هذه الدار الفخمة وحدها وإنما في رفقة، وتحت الرعاية المهذبة والحنون للدكتور فانغل وابنتيه الطيبتين من زواج أول. ومنذ البداية يبدو الوئام سائداً هنا، ويبدو دائماً أن هوس أليدا البحري وانتظارها الرومانسي لعودة فارس أحلامها، لا يحدثان أي مشكلة عائلية. المشكلة الحقيقية، وبالنسبة للدكتور على الأقل، هي في مكان آخر. في موت الولد الوحيد الذي أنجبته له أليدا ما خلف لديها حزناً شديداً سيتبين لنا لاحقاً، أنه يرتبط بتعلقها بالماضي الذي يمثله ذلك البحار الذي، في عودة إلى الوراء، سنعرف أنه أتى في ذلك الحين ليعيد إلى أليدا التي كانت عزباء حينها تعلقها الطفولي بالبحر منذ ترعرعت في منارة بحرية كان أبوها حارسها. والحال أنه حين اشتد الحزن على أليدا عند فقدان الولد، أحس الدكتور فانغل أن عليه أن يستعين بمن يعتبره «محللاً نفسياً» وصديقاً هو المدرس آرنولت، الذي مع مجيئه تتجه الأحداث اتجاهاً مختلفاً إذ تعتقد بوليت إحدى ابنتي فانغل، وكانت تلميذته أنه جاء ليطلب يدها وبهذا يصبح جزءاً من العائلة. وهو يعتني على أي حال بأليدا ويبدأ بكشف هواماتها حول البحر والبحار.
> مهما يكن فإن ثمة من حول ذلك البحار، كذلك، حكاية أخرى سنكتشفها بالتدريج. فهو، حين ارتبطت به أليدا قبل سنوات، لم يرحل من تلقائه وحباً في الإبحار بل لأن ظروفاً معينة كانت قد قادته في ذلك الحين إلى قتل ربانه فهرب مؤكداً أنه سوف يعود. وطبعاً سيحدث لاحقاً أن أليدا تبقى على انتظارها له حتى حين تقترن بالدكتور لتكتشف لدى هذا طيبة وأريحية، من الواضح بالنسبة إلينا أن ما يمليهما عليه، حبه وأخلاقه وسعة علمه بدواخل النفس البشرية. أما بالنسبة إلى ما يعتري زوجته من حنين مزدوج، إلى البحر كما إلى البحار، فهو كفيل بتوفير مقومات إشباع أولهما طالما أن بيته يبدو غائصاً في قلب البحر. أما بالنسبة إلى الثاني، فالأمر يخص أليدا والدكتور، كما قلنا، متسامح يقدّر أحلام الآخرين، طالما أن هذه الأحلام لا تشوش على دعة الحياة المنزلية وسكونها. ثم أن الطبيب فانغل ضليع في التحليل النفسي وشخص عصري وعائلي، لا يمكن أن يقلقه انصراف زوجته إلى أحلامها، طالما تبقى الأحلام أحلاماً. ولكن ماذا لو آذنت الأحلام يوماً بالتحقّق؟ ماذا لو عاد الغائب فعلاً ذات يوم وتبيّن أن أليدا لم تكن تهلوس في انتظاراتها وتأمّلها في البحر وإحساسها المفعم بانتمائها إليه؟ صحيح أن الطبيب فانغل لا يبدو في بداية الأمر على استعداد للتعامل مع مثل هذا الاحتمال، كما لا يبدو أنه طرح على نفسه جدياً فكرة عودة البحار. ثم ألم يوفّر هو من ناحيته للزوجة التي يحبها كل أسباب السعادة والراحة؟ فإن كانت عاقلة كما يبدو عليها في ساعات صفائها الكثيرة، ستكون الأمور دائماً على يرام. أما إذا تلفتت أكثر مما يجب نحو أحلامها فإنه... أبداً لن يكمل سياق الاحتمالات هنا. فالأمر مستبعد.
> لكن الذي يحدث، ولم يكن طبعاً في الحسبان، هو أن البحار يعود بالفعل. يعود من حيث لم يكن أحد يتوقع، وفي لحظة لم تكن أبداً في الحسبان. وبهذا تصل المسرحية إلى نقطة العقدة المركزية فيها. ولعل ما يفاقم من العقدة هنا هو أن الدكتور فانغل الذي يستعيد، بعد صدمة المفاجأة، أخلاقيته، يبدو وكأنه يمنح زوجته الحبيبة كل الحرية في أن تختار: مهما يكن اختيارها، لن يقف سداً في وجهها، هي التي تقرر شرط أن تفكر ملياً فيما تقرره، وهي التي تستنتج، وهي التي تختار طريقاً لحياتها المقبلة، بناء على الاتجاه الذي سوف يكون عليه اختيارها.
> للوهلة الأولى سوف يبدو الأمر في منتهى السهولة: فالبحار هنا والزوج هنا. حلم الماضي كله ببحاره وبحره والسعادة المنشودة منه هنا، دعة الحاضر وتهذيب الزوج وهدوؤه بل حتى حبه الغامر لأليدا، هنا أيضاً. ما عليها هي إلا أن تختار وتبلغ الدكتور فانغل باختيارها. وهي تعلم جيداً أنه سينصاع لرغبتها وليس فقط بسبب ما لديه من طيبة وأخلاق، أو- والعياذ بالله!-، لأنه لا يحبها وقادر على الاستغناء عنها، بل تحديداً لأنه يحبها وهو كان يعرف كيف يردد دائماً أن الحب معناه العطاء وأن من الأنانية بمكان أن تمنع حبيبك من تذوق سعادته حتى ولو كانت سعادته تعني شقاءك. ومن المؤكد أن حرية الاختيار التي يمنحها الدكتور فانغل هنا، تعني عظمة الحب الحقيقي الذي يكنه بالفعل لهذه المرأة. غير أن أليدا ستتردد وستفكر طويلاً، ليس طبعاً من منطلق المصلحة وتفضيل السعادة والعقلانية على الشغف، أو العكس بالعكس، ولا طبعاً من منطلق الإحساس بجميل زوجها، بل تحديداً من منطلق الحب. فهي إذا كانت في نهاية المطاف قد اختارت البقاء مع زوجها متخلية في سبيله، وأكثر من هذا في سبيل ما اكتشفته من حب تكنه له مخفيّ في عمق أعماقها، فإنما لأنها أدركت أين هو قلبها في الحقيقة، وأن ما عاشته من حلم وحنين إلى لحظة ماضية ووعد أسرها سنوات طويلة من حياتها، لو يكن سوى وهم من اختراعها. وهكذا وسط دهشة الجميع، تعلن أليدا اختيارها الحاسم. بل بالأحرى تعلن حبها للدكتور فانغل من دون أن يبدو عليها ولو للحظة أنه حب عقلاني. بل تؤكد أنه حب يصل إلى حدود الشغف نابع من قلبها وليس فقط من عقلها.
> لقد كان هذا المخرج الذي أنهى عليه مسرحيته، جديداً في ذلك الحين على مسرح إبسن الذي كان اعتاد مناصرة تمرّد شخصياته ومواكبة أحلامهم. يبدو أن غايته هنا كانت تكمن في مكان آخر، بعيداً من الحس الاجتماعي الذي كان يهيمن على أعماله منذ حين. غايته كانت الدنو، وكنا آنذاك أواخر ثمانينات القرن التاسع عشر، من التحليل النفسي الذي لم يكن قد ولد كعلم (فرويدي) في ذلك الحين، لكن إرهاصاته كانت قد بدأت تلوح في التحليل الأدبي والفني وإن بأشكال جنينية. ومن هنا ما نلاحظه من أن «امرأة من البحر» يدور أساساً من حول شخصية إشكالية ويلجأ إلى التحليل النفسي بما يشبه المباشرة لدراسة الشخصية المحورية ودراسة سلوكها وتصرفاتها من منطلق البحث عن أسبابها السيكولوجية عبر تنقيب علمي حقيقي في ماضي «الحالة» المدروسة وربط ذلك الماضي بما يحدث في الحاضر وصولاً إلى الترياق الذي تمثل في تلك الحرية التي يعطيها الدكتور فانغل لزوجته فيربك كل رغباتها ويحرفها عن أيّ تساوق عملي مع ما كان يُفترض بتلك الرغبات أن توصلها إليه. والحقيقة أن هذا البعد الذي قليلاً ما التُفت إليه، كان وسيظل العنصر الأساس في هذا العمل، وربما أيضاً سرّ عدم حصوله على شهرة توازي شهرة أعمال إبسنية أخرى بدت دائماً أكثر ثورية منه، على الصعيد الاجتماعي على الأقل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق